في عالم تحكمه المصالح، اختار ناي المبدأ
- Amal Altwaijri
- 8 مايو
- 4 دقيقة قراءة

توفي جوزيف ناي في السادس من مايو. لم يرحل وسط ضجة أو صخب، بل مضى كما تمضي المبادئ حين لا يلتفت إليها أحد: بهدوء، في قلب الضجيج.
كنت في السادسة عشرة عندما قرأت أعماله لأول مرة. لم يكن ذلك في فصل دراسي، ولا حتى بالإنجليزية. كنت في صيفٍ أقضيه في الطائف—مدينة جبلية هادئة في غرب السعودية، بعيدة عن أماكن تُناقش فيها السياسات العالمية. الإنترنت كان متقطعًا في أفضل الأحوال، وكان الملل يُشعل فيّ الفضول. كنت أتسلل إلى مكتبة جدي وأتصفح الكتب التي بدا أنها منسية—مجلدات مغبرة، غير مرتبة. وجدت من بينها كتابًا باهتًا، ترجمة عربية لمختارات في العلاقات الدولية. وبين نظريات بالكاد فهمتها، ظهر اسم ظل يرافقني: جوزيف ناي.
لم أكن أفهم تمامًا معنى "القوة". كانت تبدو لي شيئًا يمتلكه الآخرون. لكن هنا، وسط صفحات قديمة، وجدت صوتًا مختلفًا: أن القوة ليست فقط في الدبابات. بل قد تكون في الإيمان. في الثقافة. في القيم. في الكرامة. وأن هذه الأفكار، إن كانت صلبة بما فيه الكفاية، قادرة على أن تُحدث أثرًا. وإذا آمن بها عدد كافٍ من الناس—بصدق—يمكن لها أن تصوغ الواقع.
قابلته في واشنطن العاصمة، في ديسمبر 2022، خلال منتدى آسبن للأمن. لكن اللقاء لم يكن رسميًا أو متكلفًا. كنت دبلوماسية شابة آنذاك—أصدر تأشيرات أحيانًا، أجادل موظفي الكونغرس أحيانًا أخرى، وأحيانًا، حين يحالفني الحظ، ألتقي بأشخاص ملهمين. ذلك اليوم، كنت محظوظة.
اقتربت منه كمُعجبة، لأني كنت كذلك فعلًا. ابتسم لي بتواضع، ابتسامة تدعو لا تُقصي. أخبرته أنني قرأت كتبه، وأنني أطمح لأن أصبح أستاذة جامعية يومًا ما. قلت له إن لديّ أفكارًا كبيرة—ربما أكبر مما ينبغي، لكنها صادقة. وأضفت أنني لا أتفق مع كل ما كتبه.
نظر إليّ ضاحكًا بلطف وقال: "ما الذي لم يعجبك؟ هل لأني كتبت عن بلدك؟"
ضحكت. وكنت صادقة في ردي. أشرت إلى نقاط محددة في كتاباته شعرت أنها لم تُنصفنا—ثقافيًا وسياسيًا وسياقيًا. لم يُدافع عن نفسه. بل سألني المزيد. كان فضوليًا بصدق، لا من باب المجاملة. أمامي كان أحد أبرز العقول في العلاقات الدولية، ولم يحاول أن يُهيمن على الحديث، بل كان يريد أن يتعلم.
ذلك هو جوزيف ناي.
كان يدرك أن الأفكار لا تنتقل بنفس الشكل في كل مكان. في أحد مقالاته عن "الترابط المعقد"، كتب عن "المسافة الثقافية"—كيف يمكن للكلمات نفسها، حين تُبث إلى سبع مدن، أن تُستقبل كتحرر في واحدة وككفر في أخرى. كان يعلم أن العولمة لا تُسوي الاختلافات، بل تُعمّق التعقيدات. الثقافة الشعبية الأمريكية قد تعني التمرد في طهران، الاستهلاك السطحي في مومباي، أو مجرد ضجيج لا يُفهم في بوجومبورا.
أتذكر أنني قرأت ذلك المقطع وهززت رأسي موافقة. ثم توقفت. لأنه رغم كل بصيرته، شعرت أحيانًا أن قراءته لبعض الأماكن—خصوصا عن المملكة —كانت سطحية. خلال حديثنا، أخبرته أنني أختلف مع بعض تفسيراته للمجتمع السعودي. لم أقل ذلك بدافع الدفاع، بل لأنني شعرت أن شيئًا ما كان مفقودًا: السياق، التفاصيل، التناقضات. طلبت منه ألا يختزل تعقيد وخصوصية مجتمع كامل في خطأ ما.
وقلت له إن ذلك ليس ذنبه. لقد كتب الآخرون قصتنا بدلًا عنا لسنوات طويلة. نظر إليّ بهدوء وقال: "كوني أنت الصوت الذي يُصحّح هذا."
لم يتراجع، ولم يختبئ خلف ألقابه أو مراجع أكاديمية. بل استمع. ذلك هو ناي. لم يكن يرى المعرفة كسلطة، بل كمسؤولية—للاستماع، للتطوير، للتعلّم.
اختزاله في مصطلح "القوة الناعمة" وحده، يُفقده جوهره. نعم، هو من صاغ المصطلح. وأصبح لاحقًا جزءًا أساسيًا من السياسة الخارجية الحديثة. لكن ذلك لم يكن إلا فرعًا من شجرة أعمق. ما كان يؤمن به حقًا هو أن البشر يصنعون التاريخ من خلال الأفكار التي يجرؤون على الإيمان بها: العدالة، التعاون، الاحترام. لم يؤمن بهذه القيم لأنها رائجة، بل لأنها ضرورية.
كان يرى أن القرارات الأخلاقية بنية أساسية. وأن المهمة الكبرى في زمننا ليست فقط إدارة العالم، بل اتخاذ قرارات أفضل. وإذا اضطررنا للاختيار بين وحشين، فعلينا أن نختار الأقل قسوة. كان يدرك أن القوة قد تكون عنيفة أو ملهمة، هشة أو مرنة. لكنها ليست محايدة أبدًا. وكان يرى أن أنبل أشكال القوة ليست ناعمة ولا صلبة، بل ذكية.
كتابه في 2020، "هل الأخلاق مهمة؟"، لم يكن كتابًا يكتبه أستاذ متقاعد لتوثيق سيرته، بل كان وثيقة حية، مواجهة حقيقية. لم يُقيّم رؤساء أمريكا لتمجيدهم أو إدانة قراراتهم، بل ليفهم ما إذا كانوا قد حاولوا القيادة بضمير، وإن لم يفعلوا، فلماذا.
ما زلت أحتفظ بالصورة التي التقطناها في ذلك اليوم. ليس لأنها تُثبت أنني التقيت بشخصية بارزة، بل لأنها تُجسد رجلًا منحني من وقته. شخصية مؤثرة أفسحت لي المجال وأوضحت ان التواضع في بعض الاحيان قوة.
بعد عام، قُبلت في برنامج الدكتوراه في كلية راند للدراسات العليا في السياسة العامة. كانت تجربتي في العمل الدبلوماسي قصيرة، لكنها كانت كافية لأفهم كيف تُختبر الأفكار عندما تصطدم بالواقع، وكيف تنهار أحيانًا. واليوم، عدت إلى عالم النظريات، غارقة في أعمال ناي—لا كمراهقة حالمة، بل كطالبة دكتوراه أكتب أطروحتي عن "الترابط المعقد". نظريته. والمفارقة أنني أحاول الآن تحدي بعض جوانبها، لاختبار حدودها في عالم مختلف. ومع ذلك، ظل يرد على رسائلي—بلطف وسخاء. آخرها كان قبل شهرين فقط.
أفكارة رافقتني عبر اللغات، والحدود، والأنظمة . وكلما قرأت أكثر، ازداد يقيني: جوزيف ناي لم يكن يكتب فقط عن كيفية عمل العالم، بل عن كيفية العيش فيه، وعن قوة الأفكار. مسيرته لم تكن فقط عن تأثير الدول على بعضها، بل عن كيف يتمسّك البشر بالأمل وسط أنظمة معقدة غالبًا ما يُساء فهمها.
والآن، جاء دورنا.
أن نؤمن أن أفكارنا—إذا رعيناها، واختبرناها، ودافعنا عنها—يمكن أن تصنع عالمًا أفضل. فالتحديات التي تواجهنا اليوم—من التضليل الإعلامي، إلى تغيّر المناخ، إلى التفاوت الاجتماعي—أصبحت أكثر ترابطًا، وأكثر إلحاحًا، وأكثر حسمًا من أي وقت مضى. وأن البحث في السياسات العامة ليس استعاراضاً ولا طموح مهني، بل مسؤولية أخلاقية وطنية. في زمن تتسع فيه المسافات الثقافية، ويصبح من الأسهل أن نُحكم على الآخر بدلًا من أن نفهمه، مهمتنا ليست في الاتفاق مع الجميع، بل في السعي لفهمهم. وهذا هو الجانب الاصعب لكنه هو جوهر العمل الحقيقي.
إرث ناي يذكّرنا: لا توجد سياسة خالية من القيم، لأن البشر ليسوا كذلك. كل سياسة تنطوي على رؤية. كل توصية تحمل ضمنيا شأن ما. لقد علّمنا أنه حتى في أكثر الأنظمة تفاوتًا وعدم تكافؤ، تظل هناك فسحة للمبدأ. وأن الفهم عبر الحدود والعقائد ليس ضعفًا، بل بداية الحكمة.

