من بناء القدرات إلى ترسيخ الثقة: آن للسردية التي نرويها عن أنفسنا أن ترتقي إلى طموح رؤية 2030
- Amal Altwaijri
- 11 مايو
- 9 دقيقة قراءة

قال الله تعالى: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” – [الذاريات: 21]، دعوة إلهية للتأمل في النفس البشرية، وفيما أودعه الله فيها من قدرات، وعزائم، وقوى. من يرى في ذاته العجز، فقد عطل فطرته، ومن لم يُبصر الإمكانات الكامنة في الإنسان، فهو عنصَر الخلل وهكذا، من لا يرى في الإنسان السعودي كفاءة قادرة على الإنجاز والقيادة، إنما فقد بصيرته، وتغافل عن حقيقة أثبتها الواقع، وصاغتها إرادة قيادة وضعت المواطن في قلب مشروعها، لا على هامشه.
وحين تلتقي العزيمة بالإرادة، وتصطفّ الأحلام خلف قيادة تؤمن بالمستحيل، تولد التحولات الكبرى.
وهكذا كانت انطلاقة رؤية المملكة 2030، بعد توفيق الله، ثم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله –كأعظم مشروع نهضوي ليس فقط في تاريخ المملكة، بل كواحدة من أبرز الرؤى التحولية في تاريخ الأمم الحديثة. رؤية لم تُكتب لتُعلّق، ولا صيغت لتُردَّد، بل صُممت لتُنفَّذ.
وضعت الإنسان السعودي في قلب الحدث، وجعلت من تمكينه بوابة العبور إلى مستقبل تنافسي عالمي، يليق بطموح وطن لا يقبل إلا بالريادة. الطموح لم يعد مؤجلاً، والمعوقات لم يعد لها مكان، ومن يظن أن الوقت لم يحن، غفل عن أن الزمن قد تغير وأن الوطن بات يقوده أبناؤه بجدارة.
تاريخ عريق، وطموح يعانق عنان السماء
وفي خضم الحديث عن التمكين والثقة في قدرات أبناء الوطن، لابد أن نستحضر حقيقة تاريخية راسخة، ليست للمباهاة او التعالي، بل أساس يجب ألا نغفله في كل مرحلة من مراحل بناء المستقبل: المملكة العربية السعودية لم تُبْنَ تحت راية استعمار، ولم تخرج من رحم احتلال، ولم تعرف يومًا معنى التبعية ، بل نشأت على يد رجالٍ آمنوا بأرضهم، ووحدوا صفوفهم، وبنوا دولة قوية بسواعدهم. ومنذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – قامت المملكة على مبدأ الاعتماد على الإنسان السعودي، وعلى الإيمان العميق بأن الكرامة الوطنية لا تُستورد، والسيادة لا تُمنح، بل تُصنع من الداخل.
تُعدُّ قصة توطين شركة أرامكو السعودية مثالًا حيًّا على قدرة المملكة على بناء مؤسساتها بسواعد أبنائها. بدأت رحلة أرامكو في عام 1933م، عندما أُبرمت اتفاقية امتياز بين المملكة العربية السعودية وشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا، مما أدى إلى إنشاء شركة تابعة تُدعى كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني لإدارة هذه الاتفاقية. وبعد سنواتٍ من الجهد، تم اكتشاف النفط بكميات تجارية في بئر الدمام رقم 7 عام 1935م، مما شكل نقطة تحول في تاريخ المملكة.
منذ البداية، كان هناك اهتمام بتدريب وتأهيل السعوديين للعمل في الشركة. ففي عام 1940م، تم إنشاء أول مدرسة للشركة في منزل المترجم حجي بن جاسم في الخبر، تلاها إنشاء مدرسة جبل في الظهران عام 1941م. وفي عام 1950م، بنت أرامكو مدارس تستوعب 2,400 طالب، وفي عام 1959م، أرسلت أول مجموعة من الطلاب السعوديين للدراسة في الولايات المتحدة. بحلول عام 1987م، أصبح السعوديون يشكلون نحو ثلثي القوى العاملة في أرامكو، وفي عام 1988م، تم تعيين علي النعيمي كأول رئيس تنفيذي سعودي للشركة. تُوِّجت جهود التوطين، عندما أكملت المملكة استحواذها الكامل على الشركة، وتم تغيير اسمها إلى شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية). ومنذ ذلك الحين، أصبحت أرامكو رمزًا للنجاح الوطني، تُدار بكفاءات سعودية.
توطين أرامكو يبرهن على أن المملكة قادرة على بناء مؤسساتها وتطويرها اعتمادًا على قدرات أبنائها، مما يُفند السرديات المجحفة التي تُقلل من كفاءة المواطن السعودي.
ثمار التحول تتجلّى في كل زاوية من زوايا الوطن
اليوم ما زال السعوديون، في همتهم التي تشبه همة جبل طويق كما وصفها سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – كالبنيان المرصوص ، يشد بعضهم بعضاً، لا يعرفون التراجع، ولا يقبلون إلا بالتقدم. يخطون بثقة نحو نهضة بلادهم، مستندين إلى تاريخ عريق، وطموح يعانق عنان السماء ، يتنافسون بإصرار وعزيمة ليضعوا المملكة في مصافّ دول العالم المتقدمة، لا كحلم بعيد، بل كواقع يصنعونه كل يوم بجهدهم، وإخلاصهم، وإيمانهم بأنهم أهل لهذا الوطن، وحملة رسالته نحو المستقبل.
ولأن الرؤية وُلدت لتُنجز، ولأن الطموح إذا اقترن بالإرادة صار واقعًا لا يُنكر، فقد بدأت ثمار التحول تتجلّى في كل زاوية من زوايا الوطن، تنطق بها الأرقام قبل الأقلام.
فقد بلغت نسبة المبادرات المكتملة 85%، وتحققت 93% من مؤشرات الأداء، في دلالة واضحة على جدّية الالتزام وعمق التنفيذ. كما تجاوز عدد السياح حاجز المئة مليون، وارتفعت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى أكثر من 36%، محققة حضورًا قياديًا لافتًا بنسبة 43.8% في المواقع الإدارية المتوسطة والعليا. وتجاوزت نسبة تملك الأسر للمساكن 65%، فيما قفز متوسط العمر إلى 79 عامًا، واقتربت الرعاية الصحية من تغطية شبه كاملة. أصول صندوق الاستثمارات العامة تضاعفت لأكثر من ثلاثة أضعاف،وساهم القطاع الخاص بنسبة 47% من الناتج المحلي.
سردية السعودي غير مستعد
ورغم الإيمان العميق الذي تبديه القيادة الرشيدة بكفاءة المواطن السعودي، ورغم كل ما تحقق من منجزات، تتسلل — في كثير من النقاشات المهنية، وفي أروقة بعض المؤسسات، بل وحتى في الأحاديث العابرة — فكرة خطيرة يُعاد تدويرها بصيغ مختلفة، مفادها أن السعودي لا يزال غير مؤهل كفاية، أو أنه ليس مستعدًا بعد لتحمل المسؤوليات الكبرى.
يرُوّج، بصيغ مباشرة حينًا وضمنية حينًا آخر ، لفكرة أن السعودي يفتقر إلى المهارات اللازمة للقيادة أو المنافسة في قطاعات معقدة مثل الاستشارات، التكنولوجيا، والابتكار. يُغلّف هذا الطرح أحيانًا بلغة التطوير، أو يُقدَّم تحت مسميات "بناء القدرات"، إلا أنه في جوهره يعكس سردية اختزالية تختصر التحديات المؤسسية في الفرد، وتتجاهل البنية التي يعمل داخلها.
تُردَّد في قاعات الاجتماعات، وفي تقارير الأداء، وحتى في الأحاديث العابرة بين الزملاء: "السعودي ما يتحمّل الضغط"، "تنقصنا الجدية"، "ما عندنا خبرة كافية".
ومما يجدر ذكره، أن الخطر الحقيقي ليس في وجود منافسة أجنبية— فهذا أمر طبيعي في اقتصاد عالمي منفتح، يسعى لاستقطاب الخبرات والتنوع. الخطر الأكبر، والأكثر إرباكًا، يكمن حين نتبنى نحن – كسعوديين – سردية داخلية مفادها ان أبناؤنا غير جاهزين بعد.
ولمن لا يزال يروّج لهذه السردية ، فإن الواقع نفسه يقدّم الردّ القاطع. ففي العام السابق، حقق طلاب المملكة إنجازًا عالميًا بتصدرهم جوائز معرض "آيسف"، متفوقين على مشاركين من دول صناعية عريقة، في دلالة على نضج المهارات العلمية والابتكارية لدى الجيل السعودي الشاب. وعلى الصعيد الأكاديمي، دخلت جامعة الملك سعود قائمة أفضل 100 جامعة في العالم، لأول مرة في تاريخها، بينما ظهرت أربع جامعات سعودية أخرى ضمن أفضل 500، متقدمة بذلك على مؤسسات تعليمية في دول إقليمية ودولية ذات باع طويل. أما في سوق العمل، فقد أثبت آلاف السعوديين كفاءتهم عبر مواقع قيادية في شركات عالمية كبرى فضلًا عن ريادتهم داخل المؤسسات الوطنية.
وفي مضمار التحول الرقمي، حققت المملكة العربية السعودية إنجازًا غير مسبوق بتقدمها 25 مرتبة في مؤشر الأمم المتحدة لتطور الحكومة الإلكترونية لعام 2024، لتدخل قائمة أفضل عشر دول عالميًا كأول دولة من الشرق الأوسط تحقق هذا المركز، كما احتلت المرتبة الأولى إقليميًا، والثانية بين دول مجموعة العشرين، والسادسة عالميًا من بين 193 دولة، مما يعكس جاهزية عالية على المستويين التقني والإداري. كذلك، أطلقت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) نموذج "علّام" بالتعاون مع شركة IBM، وتم اعتماده ضمن منصة Watsonx العالمية، ليكون من أبرز النماذج العربية في مجال الذكاء الاصطناعي. هذه المعطيات ليست استثناءات، بل مؤشرات ثابتة تؤكد أن المواطن السعودي حين يُمنح الفرصة، يثبت جدارته، ويتقدم بثقة، ويصنع الفارق. فالمشكلة لم تعد في الجاهزية، بل في الاعتراف بها.
أزمة الثقة داخل المؤسسات
هذه السردية المجحفة ، ليست مجرد فكرة عابرة، بل هي نتاجٌ لعوامل متعددة، بعضها متجذر في الهياكل المؤسسية، وبعضها نابع من ثقافة إدارية قديمة، والبعض الآخر يرتبط بمصالح خفية. فحين نتأمل في هذه السردية ، نجد أنفسنا أمام نمط ذهني راسخ أكثر من كونه موقفًا موضوعيًا.
تُفسّر نظرية التثبيت المعرفي (Cognitive Fixation) هذا الميل المتكرر لدى الأفراد والمؤسسات إلى إعادة تأويل الواقع ضمن أطر معرفية مألوفة، حتى عندما تتغيّر المعطيات. النجاح السعودي – حين يقع – لا يُعامل كدلالة على كفاءة وطنية ناضجة، بل يُقدَّم غالبًا كاستثناء، أو يُعزى إلى ظرف خاص، أو يُحيط به قدر من الدهشة المبطّنة. هذا التثبيت لا يتولد من سوء نية، لكنه يعكس بيئة لم تُراجع فرضياتها منذ زمن، فاستمرت في استخدام أدوات قديمة لقراءة واقع جديد، فحجبت عن نفسها رؤية التحول الفعلي الحاصل في كفاءات الوطن. ويزداد وضوح هذا النمط حين نُميّز بين القطاعين العام والخاص. فبينما بدأ القطاع العام، بدفع مباشر من القيادة، في تجاوز كثير من هذه السرديات، من خلال سياسات تمكين واضحة، وبرامج إعداد جادة، وهيكلة إدارية تعترف بقدرات المواطن وتراهن عليه، ما زال القطاع الخاص – في بعض أوساطه – مترددًا في فك ارتباطه بتصورات سابقة. وفقًا لما توضّحه نظرية التحيز المؤسسي (Institutional Bias)، فإن بعض الهياكل الإدارية بُنيت أصلاً على نماذج تشغيل خارجية، واعتمدت في إدارتها على أنماط استقطاب وتقييم صُممت لبيئات غير محلية، فتحوّل "الاستعانة بالأجنبي" من خيار مرحلي إلى معيار ضمني. ليس لأن السعودي غير كفء، بل لأن النظام لم يُصمَّم منذ الأساس لرؤيته في موقع القيادة.
وهذه ليست دعوة للمواجهة. فإعادة النظر لا تعني نكران الماضي، بل الاعتراف بأن الزمن قد تغيّر، وأن الطاقات الوطنية لم تعد تنتظر إثبات جدارتها، بل تنتظر فقط بيئة تعترف بها.
تقف المؤسسات اليوم عند مفترق طرق لا يمكن تأجيله. فبعض قياداتها لا تزال تنظر إلى التوطين من زاوية ضيقة، تُختزل في الأرقام والنسب، دون أن تُلامس جوهر التمكين الفعلي في مواقع التأثير وصناعة القرار. وفي كثير من الجهات، ما تزال القيادات العليا تُدار بذهنية مستوردة، تتأثر بماض متجذر في هيكلها، وتُبدي تحفظًا واضحًا على تسليم السعوديين مفاتيح القيادة.
ليس لأن الكفاءة غائبة، بل لأن البنية لم تُبنَ منذ الأساس على قاعدة تمكين حقيقية، بل على منظومة تعايشت طويلًا مع مراكز نفوذ قديمة، ترى في التغيير تهديدًا. هذا الخلل لا يكمن في نقص القدرات الوطنية، بل في عدم اعتراف بعض الإدارات بها، وفي إصرارها على تأجيل التمكين لحساب توازنات داخلية فقدت اتصالها بتحولات الواقع.
إن هذه السردية القاصرة لا تقف عند حدود الإدارات المترددة، أو الشركات التي تُبطئ مسار التوطين الحقيقي للقيادة، بل تتجاوز ذلك لتُخلّف انطباعات لا تنصف واقع الوطن، ولا تعكس ما بلغه من نضج وتقدّم وتُعطى من خلالها الذرائع لأعداء الوطن والمتربصين به للنيل من منجزاته، والطعن في رؤيته، والتقليل من خطواته الجريئة نحو المستقبل.
والمشكلة لا تقتصر على السردية ذاتها فقط ، بل في الفراغ الذي تخلقه، وفي المساحة التي تمنحها لمجحفــون لا يرون في التقدم إلا صدفة، ولا يعترفون بما تحقق على يد السعوديين إلا على استحياء، ويقتاتون على أخطاء فردية ليعمموها، بينما يغضّون الطرف عن النجاحات العظيمة التي تحققت بفعل الثقة التي منحتها القيادة لطاقات الوطن. هذه السردية تفتح لهم المجال للتمادي.
من تحقيق المُخرَجات إلى تحقيق الأثر
لقد بلغنا اليوم مرحلة متقدمة في تحقيق المُخرَجات؛ المؤشرات تحقّقت، والأرقام أُنجزت، والمستهدفات تمّ تجاوزها في كثير من المجالات. لكن النجاح لا يتوقّف عند حدود المُخرَج، بل يُقاس بالأثر. نحن الآن أمام لحظة فارقة، نحتاج فيها إلى الانتقال من تحقيق المُخرَجات إلى تحقيق الأثر، وهذا الأثر لا يتحقّق بالقرارات وحدها، بل بالثقة. وثقة القيادة الرشيدة لم تكن يومًا غائبة؛ فقد آمنت بالكفاءات الوطنية، وراهنت على أبنائها، ومنحتهم فرصًا حقيقية.
لكن التحدي اليوم يكمن في تطبيق الثقة داخل المؤسسات، في قرارات المدراء، وفي ثقافة العمل اليومية، وفي طريقة توزيع الأدوار والمسؤوليات. فالثقة هي العامل الحاسم في هذه المرحلة؛ هي ما يُحوّل الإنجاز الظاهر إلى أثر مستدام.
لا زلتُ أتذكّر بداياتي جيّدًا، حين كنت خريجة جديدة تخطو خطواتها الأولى في جهة حكومية، لا أملك من الخبرة إلا الحماسة، ومن المعرفة إلا ما تعلّمته على مقاعد الجامعة. كل شيء كان جديدًا، غريبًا أحيانًا، وأنا أحاول أن أجد لنفسي موطئ قدم في منظومة لا تزال ملامحها تتشكّل أمامي. وسط ضجيج المكاتب وأوراق المعاملات ، كُلّفت بعمل لم يكن استثنائيًا في ظاهره، لكنه أوكل إليّ بطريقة حملت بين طياتها ما هو أعمق من مجرد مهمة. لم يكن مضمون التكليف هو ما جعل اللحظة استثنائية، بل تلك الرسالة الضمنية التي لم تُقَل، لكنها كانت أقوى من أي إشادة: هناك من رأى أنني أهل للثقة. لم تكن ترقية، أو تكريم لكنها كانت بذرة أولى زُرعت داخلي: أن الثقة لا تُطلب، بل تُكتسب، وأن التمكين لا يحتاج ضجيجًا، بل يكفي أن يُقال لك – ولو بصمت. تلك اللحظة غيّرت علاقتي بالمسؤولية.
تعلّمت من تلك اللحظة أن الثقة، حين تُمنَح، قد تكون أقوى من كثير من المهارات. ليست بديلاً عنها، لكنها تسبقها في التأثير. لأن من يثق بك لا يراك فقط كما أنت، بل الى ما يمكن أن تصبو اليه. وهذا النوع من الإيمان لا يصنع شعورًا بالامتنان فقط، بل يُوقظ التزامًا عميقًا، ويُحرّك في الإنسان رغبة لا تُدرَّس: أن يعرف ما يجهله، وأن يتقن ما لم يُتِح له الوقت أن يتعلمه من تلقاء نفسه.
لا توجد ورشة عمل تخلق هذا الشعور، ولا دورة تدريبية تستطيع أن تمنح الإنسان ما تمنحه لحظة واحدة من الثقة الحقيقية.
الأمر لا يحتاج أكثر من التخلّي عن السردية القديمة التي ترى في الشباب السعودي نقصًا جاهزًا، لا طاقة كامنة. ما يحتاجه الجيل اليوم ليس إعادة تشكيله، بل الإيمان به. المهارة تُبنى، لكن الثقة هي ما يجعل الإنسان يبنيها من تلقاء نفسه، دون أن يُطلب منه ذلك.
ما نحتاجه ليس إنكار وجود تحديات، بل إنكار فكرة أن الحلّ هو تأجيل الثقة إلى أن "نستحقها". الكفاءة لا تُسبق بالثقة، بل تتعزز بها. والإيمان بالقدرة المحلية لا يعني إقصاء الآخر، بل يعني التوازن.
أن يكون الأجنبي شريكًا لا بديلًا، داعمًا لا حاجزًا، مكمّلًا لا محورًا. أن نؤمن أن أبناء البلد ليسوا مشروعًا غير مكتمل، بل طاقات جاهزة، تحتاج إلى الثقة قبل التدريب، وإلى التمكين قبل التقييم.
وهنا يتجلّى دور كل قائد فريق: فالثقة لا تُطلب، بل تُمنح. والقائد الحقيقي هو من يرى ما يمكن أن تنضج إليه الكفاءات إذا أُحسِن تمكينها، لا من يختار الطريق الأسهل بانسياقه خلف سرديات جاهزة وسهلة. فتمكين الأفراد لا ينتظر نضجهم الكامل، بل يُسهم في صناعته، والثقة حين تُمنح في وقتها، تُصبح حافزًا ومسؤولية في آنٍ واحد.
ولا يمكن الحديث عن التمكين والثقة دون العودة إلى الأصل الأعمق: الأمانة. السعودي يحمل الأمانة بحق، أمانة النهوض بوطنه، وبناء مستقبله، مستشعرًا عِظَم التكليف الذي شُرّف به، مستندًا إلى قول الله تعالى: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها” – [النساء: 58]. فالسعودي حين يعمل، وحين يسعى، وحين يتقدّم، إنما يفعل ذلك إيمانًا بأن هذه الأرض أمانة، وأن الثقة التي أولته إياها قيادته ليست فضلًا بل واجبٌ عليه أداؤه بأعلى درجات الإخلاص والكفاءة.
هو لا ينتظر مَن يُذكّره بمسؤوليته بشكل دوري، لأنه يعرف أن حمل الأمانة مبدأ أصيل، وأن التفريط فيها خيانة للثقة، وخروج عن طريق الحق. ولذلك، نجد السعوديين اليوم يتسابقون في ميادين العمل، يستشعرون رقابة الله قبل أي شيء، ويضعون نهضة وطنهم فوق كل اعتبار، مدركين أن الأمانة مسؤولية لا يحملها إلا من كان أهلًا لها.
المؤسسات التي تدرك هذه المرحلة وتتحرك بما يتناسب مع تطلعاتها ستكون هي التي تقود التغيير وتستثمر الفرص المتاحة. أما تلك التي تظل مترددة أو تتأخر في اتخاذ الخطوات اللازمة، فإنها لن تخسر الفرصة فحسب، بل ستجد نفسها على هامش التاريخ، في الوقت الذي يواصل فيه الوطن تقدمه.
وفي النهاية، رسالة إلى شباب هذا الوطن:
أنتم اليوم قلب الرؤية وروح الوطن، أنتم الجيل الذي عوّلت عليه القيادة ليحمل الأمانة، ويبني الحلم، ويصنع الفرق. لم يعد الطريق غامضًا، ولا الفرص بعيدة. الفرص أمامكم. الوطن فتح لكم الأبواب، ومهّد لكم السبيل، وأثبت أن ثقته بكم لا حدود لها.
بادروا، تقدّموا، تحمّلوا المسؤولية، وكونوا على قدر الأمل. دعوا أعمالكم تتحدث، واجعلوا من إنجازاتكم برهانًا على أن السعودي إذا مُكّن، أبدع، وإذا قاد، صنع الفارق.
فكونوا كما أرادتكم القيادة: قممًا في الطموح، صادقين في العمل، مخلصين للوطن. ومن أراد المجد، فالميدان أمامه، والتاريخ يكتبه الأقوياء بالأمانة، والأوفياء بالعطاء.
ولا تسمحوا لأي سردية أن تُضعف ما تعرفونه عن أنفسكم، ولا لأي تشكيك أن ينال من ثقة تستحقونها. فأنتم الرهان، وأنتم الإجابة.

